نَحِنُّ إلى الأمس ونتشوق إلى الغد، لكننا نعيش اليوم. يومنا هو حصيلة ما ورثنا وما نتطلع إليه. وما أسوأ أن يشقى الإنسان بلا حنين ولا شوق.
أتمت “الغد” نصف عقد نفتخر بما حققناه جميعا، سواء الرواد الأوائل أمّ من لحقوا متأخرين. أدخُل الغد اليوم وأرى معظم العاملين فيها ممن التحقوا بعد نجاحها لا من غامروا في البدايات. وأشعر بالزهو لأننا أسهمنا في توسيع خيارات الجيل الجديد من الصحافيين؛ فكلما زادت المؤسسات الناجحة ارتقت الصحافة وتنوعت ألوانها.
كان مغريا للجيل الأول من قيادات “الغد” أن يظل حيث هو، وجله كان في الزميلة “الرأي”. مؤسسة ناجحة تحصد أرباحا مليونية عمادها الاستقرار الوظيفي الذي شيده الأستاذ أبو عزمي محمود الكايد متعه الله في عمره، وما له ولمغامرة رجل أعمال شاب لا يعرفونه ولا يعرفهم. إلا أن الشوق للتغيير غلب الحنين إلى الاستقرار فكانت المغامرة الناجحة التي تكاملت فيها الصحافة مع التوزيع والاشتراك والإعلان والترويج.
نافست “الغد” في المضمون والشكل، وجسدت مقولة فوكو “الشكل يحقق المضمون” وتصدرت في زمن قياسي. والسؤال المهم ليس كيف تحقق هذا النجاح وإنما كيف نحافظ عليه في زمن تواجه فيه الصحافة المقروءة تحديات وجودية؟
نجحت “الغد” عندما جنّد باسل رفايعة مندوبين مقاتلين في المحليات، لا يستجدون رشوة ولا يرهبون اتصالا، وغدت الصفحة الأولى للناس المحليين لا للمسؤولين محليين أو دوليين. وما أروع عدد أمس وقد تصدره العمال المضربون في الميناء. ونجحت عندما جعل حسن الشوبكي من الاقتصاد قضية للنقاش العام لا حملات دعائية. ونجحت عندما فتح إبراهيم غرايبة الأبواب للمواقف والآراء ولم يحصرها في لون أو اتجاه أو فئة عمرية فوق الخمسين. توازى مع ذلك الصخب رقة ملحق حياتنا الذي رعته رنا الصباغ. وما كان لهؤلاء المدراء أن يبدعوا لولا الفسحة التي أتاحها أول رئيس تحرير عماد الحمود.
أكتب عمن غادروا الصحيفة كليا أو جزئيا حتى لا ننسى الأمس الذي يشكل “الغد”. فالقيم التي تأسست عليها الصحيفة هي التي تحفظ بقاءها وسط منافسة وتحديات عاتية. الإيمان والحرية والهوية والجرأة والشجاعة والاتزان والنزاهة والعدالة نجوم هادية إن أظلم الليل واضطرب الموج. فالصحافة هي تعبير عن تلك القيم التي تستقيم بها حياة الفرد والمجتمعات.
أخطر ما تواجهه صحيفة فتية أن تنسلخ من قيمها وتغدو نشرة إعلانية تتابع رغبات السوق. وهذا ما لم تنزلق فيه الغد. إضافة إلى التحدي القيمي تواجه “الغد” والصحافة المقروءة إجمالا تحدي مواكبة التطور التقني المتسارع. في الأردن أكثر من ربع السكان متصلون بشبكة الإنترنت نت، وغدت الشبكة بفضل تقانة الواي ماكس جوّالة متاحة بسرعات عالية وبأسعار متاحة.
سيبقى الورق بموازاة الشاشة. سيظل صندوق الغد الأحمر يزين بيوت الأردنيين، تماما كما تظل تزين شاشات حواسيبهم. سيقرأها الأب في الصباح مع فنجان القهوة تماما كما يتصفحها الفتى على شاشة هاتفه الجوال وهو في فراشه قبل النوم. وسيتفاعل معها تعليقا وتقييما وإرسالا فهو شريك متفاعل لا مجرد متلق. نتطلع إلى “الغد” الآتي ينازعنا شوق وقلق “يا خوف فؤادي من غد”. والنجاح محصلة الاثنين.
هل تريد التعليق؟