عندما بث تلفزيون الإم بي سي في رمضان الماضي مسلسل “فاروق” والذي اتهم فيه الجيش الأردني بعدم القتال في حرب 48 قيل إنهم يتآمرون على الجيش العربي ويغيبون نضاله وشهداءه، والاتهام بالتآمر سبق وأن صدر مع نشر مقالات وكتب محمد حسنين هيكل مثل
“الجيوش والعروش” أو في مقابلاته مع الجزيرة، وسبق ذلك عندما بثت البي بي سي “خمسون عاما” على الصراع العربي الإسرائيلي وترجمته الإم بي سي.
سأوافق على الاتهامات بالمؤامرة. فلا شغل للعالم إلا التآمر علينا! ولكن مقابل ذلك ألا يحق لنا أن نسأل عن “مؤامرة” منا فينا غيبت تاريخنا كله بما فيه تاريخ الجيش العربي المصطفوي(لا يوجد جيش في العالم يعلن انتماءه العربي الإسلامي بهذا الوضوح). حتى البتراء! هل تعلمون أن وزارة الثقافة تحتجز كتاب بيركهارت الرحال العظيم الذي اكتشف البتراء وقدمها للعالم بعد أن قامت الوزارة مشكورة بترجمته؟ لا تفسير رسميا عن سبب منع الكتاب الذي يعتبر كنزا تاريخيا بذاته.
في ذكرى النكبة، كان من المفروض أن تستفز جامعتنا الرسمية والخاصة التي تزيد على العشرين لإنجاز أعمال بحثية وعلمية توثق الدور البطولي الاستثنائي للجيش العربي في استرداد القدس القديمة والحفاظ عليها. توقعت أن يطرمنا التلفزيون الأردني بتوثيق وتقديم روائع الأهازيج والأغاني الشعبية في القرى والبوادي الأردنية الذي خلد تلك البطولات قبل ظهور التلفزيون الأردني.
حرفت، وبشكل غبي، أجمل أهزوجة تخلد معركة القدس
يا يمه شدي مهيرتي تسلم وانا خيالها لا شري لها سرجا جديد سرج الذهب يحلى لها
غزوا البيارق ع الجبل وتهللي يا بلادنا جيناك يا القدس الشريف نفديك بدم رقابنا ..
لم تكن أهزوجة فارغة تدعي بطولات وهمية. إنما كانت توثيقا صادقا عن مشاعر من بذلوا النجيع(دم الرقاب) فداء للأقصى. فلم تكن بموازين ذلك الزمان معركة سهلة. بل استبسال من باع نفسه واشترى الآخرة. وكانت نتائجها استسلام الحي اليهودي وأسر المقاتلين اليهود. ومايزال إلى اليوم مسدس قائد الحي اليهودي الذي سلمه لحاكم القدس العسكري عبدالله التل موجودا لدى ورثته.
حصلت النكبة نعم، ولكن ذلك لا يلغي بطولات حقيقية قللت من كارثيتها. ولم تقتصر تلكل البطولات على حابس المجالي
ومحمود موسى عبيدات و.. بل على المتطوعين من أمثال عبداللطيف أبو قورة أول مراقب عام للإخوان المسلمين الذي تطوع وتبرع بتجهيز كتيبة المتطوعين، والشيخ هارون الجازي الذي مايزال الرشاش الذي غنمه في المعركة موجودا أيضا.
ألا يمكن إيقاف المؤامرة وتوثيق تاريخنا المغيّب؟
الآن الآن وليس غدا. ليست المسألة اختراع ذرة. يبدأ بتشكيل لجنة برئاسة أكاديمي مرموق(الدكتور سعيد التل، أو الدكتور علي محافظة،
أو الدكتور محمد عدنان البخيت، أوالدكتور مصطفى الحمارنة..) فلا يجوز أن يوكل عمل تأريخي لموظف يسعى إلى ترقية. فنخرج بمدائح غبية تسيء إلى التاريخ. عمل علمي يتطلب ابتداء جمع الأدب السابق، فلا بد من حصر كل أو معظم ما كتب عن حرب 48 وخصوصا وثائق الجيش العربي، وما توافر من وثائق(الكتابات الإسرائيلية والوثائق البريطانية..) وسير ذاتية وغيرها. ويشمل ذلك الصور الفوتغرافية وأفلام السينما والأشياء والمتعلقات.
في العلم لا توجد مواقف سياسية أو أيديولوجية، فمن أسباب تغييب تاريخنا الخلاف السياسي، داخليا وخارجيا؛ فمذكرات عبدالله التل طبعت ولم تنشر في الأردن، ومذكرات محمود موسى عبيدات ماتزال مخطوطة ومذكرات شاهر أبو شحوت نشرت على حلقات ولم تجمع في كتاب. ومذكرات خالد هجهوج المجالي مخطوطة ولم تطبع. والخلاف السياسي خارجيا يتفاقم مع باحثي منظمة التحرير الفلسطينية، أو مع هيكل فضلا عن الباحثين من الأعداء الإسرائيليين. لا بد من تجميع كل ما كتب وهو بمجمله ينصف ولا يجحف.
بعد حصر الأدب السابق، تبدأ ورشة توثيق شفوي مع من تبقى حيا سواء من الجيش العربي أو من عاصرهم وكان على صلة بجهادهم. وهذه مهمة يمكن أن يقوم بها التلفزيون الأردني. ويصار لاحقا إلى تفريغها وتقديمها للباحثين الجادين.
بعدها ومع كل ذكرى نكبة، يعقد مؤتمر علمي تقدم فيها أوراق وأبحاث ورسائل ماجستير ودكتوراه. يستفيد من المادة العلمية الثرية من يريدون عمل أفلام وثائقية أو سينمائية أو مسلسلات تلفزيونية أو تجهيز متاحف.
بهذا تحبط المؤامرة، ولا مؤامرة أسوأ من تغييب التاريخ وتضييعه، أما الحديث الموسمي والفزعات فلا تؤرخ لبلد، ولا تفي الشهداء والأبطال حقهوقهم.
هل تريد التعليق؟