مقالات

يزايدون على الدم الفلسطيني في غزة

 سالت دماء غزيرة عزيزة في غزة، وكان أحرص الناس عليها هم المقاومون. وكانت استراتيجية السفاحين هي الضغط على المقاومة بدماء الأبرياء.

  تظن أن العالم العربي والإسلامي دولا اسكندنافية لم تسل فيها الدماء من الحرب العالمية الثانية. ولا يفاجئك أن تنبري منظمة تلوم المقاومة على تلوث بيئة غزة بشكل يهدد كائنات بحرية بالانقراض. وتنسى أنك في منطقة دمرتها الصراعات وتعوم على بحور من دماء. ولا تجد من عشرات السنين من يذرف الدمع على ضحاياها الأبرياء الذين لم يقض عليهم وباء الطاعون ولا تسونامي ولا هزة أرضية. وإنما قضوا بفعل سياسات متعمدة نفذتها ولا تزال قوى كبرى.

  في الجزائر قضى من خمسين إلى مئتي ألف (لا أحد يجزم بالرقم الحقيقي في استهانة فاضحة بأرواح البشر) في صراع سياسي تدخلت فيه فرنسا وأميركا. ولو أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ أتمت مسارها الانتخابي لكانت الجزائر في أسوأ الأحوال دولة محافظة مثل إيران والسعودية. وفي العراق وإيران ضحايا بالملايين منذ الحرب العراقية الإيرانية في صراع كانت أميركا تغذيه بدعم الدولتين تارة بسلاح الكونترا الذي امتزجت فيه أموال المخدرات بخبرات السي أي إيه وتارة بدعم ترسانة العراق وتزويده بالمعلومات الاستخبارية، وفي الحصار والحرب والحرب الأهلية فاض بحر الدم العراقي وما يزال.

   ولم تفطن أميركا ودول الغرب الحديث والإنساني إلى دماء الأكراد إلا عندما أرادت التخلص من النظام العراقي، في تركيا أبيدت قرى وفي إيران حال الأكراد ليس بأفضل. كل ذلك الدم لا يستفز ذوي المشاعر المرهفة. المهم هو ملاحقة الأتراك على مجازر الأرمن التي لا يوجد حي واحد يرزق يحاسب عليها من الطرفين.

     يتفرع بحر الدم في إفريقيا، مجازر الكونغو والحرب الأهلية في الصومال(من يتذكر حملة إعادة الأمل مطلع التسعينات؟). واليوم لا أحد يسأل القوات الأثيوبية عما تفعله بعد احتلال البلد بدون أي شرعية, ولا تعني شيئا مظالم المسلمين في أقليم أوغادين, يفيض البحر ولا يذكر منه إلا دارفور! ولا يطرح سؤال بسيط عن دور أميركا في تغذية الصراع بين الشمال والجنوب والسعي لتفتيت السودان.

 أفغانستان؟ كم احتج كرزاي نفسه على الأميركيين الذين تصر طائراتهم على استهداف العزل في الأعراس والصلوات بظن وجود زعماء القاعدة وطالبان. وكم طفل أفغاني قضى بفعل الجوع والمرض والخوف منذ “تحرير” أفغانستان من ظلم طالبان التي مع كل تخلفها بسطت الأمن والعدل في البلد الذي نكبه حلفاء أميركا السابقون واللاحقون. يكفي أمثلة !

  أما الدم الفلسطيني الذي ارتفع سعره مؤخرا فالثابت أنه لا قيمة له عند سادة العالم الحديث. ولو كانت له قيمة لحوسب من سفكه في مجزرة صبرا وشاتيلا. وسواء كان شارون أم القوات اللبنانية, فهما حليفا أميركا اللذان يحاربان قوى التطرف والإرهاب. وفرق كبير بين من يقضون في معركة غزة الشرعية بكل القوانين الأرضية والسماوية وبين من يقضون في مجزرة لا شرعية لها.

    سالت دماء غزيرة عزيزة في غزة. وكان أحرص الناس عليها هم المقاومون. فهي دماء أبنائهم وأمهاتهم وآبائهم. وكانت استراتيجية السفاحين هي الضغط على المقاومة بدماء الأبرياء. ولم تكن أمطار الفسفور الأبيض تميز بين مقاتل مسلح ومدني أعزل. ولولا تلك الدماء لما قبل المجاهدون بوقف القتال. فهم فعلا لا قولا أسمى أمانيهم الموت في سبيل الله.

         أولى الناس بتلك الدماء هم المجاهدون، لا الذين يزايدون عليهم. وتلك الدماء قال عنها آباء الاستقلال الأميركي “الحرية شجرة ترويها الدماء”. ودينيا قتل النفس من الكبائر لكن القتال يغدو فريضة حفظا للنفس والدين. ولا تزال صرخة الصحابي ترن في آذان الأمة ” أينقص الدين وأنا حي؟”.

  لا يحتاج الفلسطينيون إلى أسانيد من الدين والخبرة البشرية ليقتنعوا أن  دماءهم لا تسيل عبثا. وفي ملحمة غزة ثبت أن أكثرية الناس تقيم وزنا لتلك الدماء. ولم يسبق في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي أن احتضنت المقاومة بهذا الزخم في العالم كله. ولم يحتفَ بالضحايا كما حصل في الشهر الأخير.

  في انتفاضة الحجارة السلمية  قضى من الشهداء أكثر ممن قضى في انتفاضة الصواريخ في غزة. وفي الحجر والصاروخ يظل ميزان القوى المادي لصالح المحتل الجاني، إلا أن الميزان الأخلاقي يظل لصالح المستضعفين.

        لا تتوقف الدماء حتى يصبح الفلسطينيون دولة اسكندنافية, وإنما حتى يتحقق الحل العادل للصراع. وما طالبت به الفصائل المقاومة  قبل وقف الهدنة واقعي ومن دون الحل العادل. وتكفي شهادة مؤرخ إسرائيل آفي  شلايم  أن من خرق الهدنة هي إسرائيل لا المقاومة.

       الوفاء للدماء البريئة يكون بمزيد من الاحتضان  للمقاومة. فهي من حقق النصر وهي ولية الدم لا المزايدون عليه.

هل تريد التعليق؟