إلى حبيبتي .. أطال الله عمرها
في مدرسة كلية الحسين الثانوية حصل عريف الصف على شهادات ميلاد الطلاب، وامتلك من خلالها معلومة يبتزهم بها؛ إنها أسماء الأمهات! اليوم أتذكر ذلك
المشهد الكاريكاتوري لطلاب يتشاجرون بسبب مناداتهم بأسماء امهاتهم وأفتخر بأني ابن نجاح عبدالكريم الحياصات. وأكتب لها مهنئا بعيدها الرابع والسبعين، وأنا عنها بعيد جسدا قريب روحا.هي في عمان وأنا في الدوحة.
كم أنا مدين لك! ولدت نجاح في جبل الحسين في المنطقة المطلة على شارع السلط، لضابط يعمل في الجيش العربي ترك مسقط رأسه في السلط التي تأسست فيها أول مدرسة ثانوية في البلاد وبنى بيتا مطلا على شارع السلط ليظل مشرعا للقادمين منها إلى العاصمة. من يومها تربت على أن البيت بلا أبواب مفتوح للضيوف. أمها عائشة الشويكي من شوام عمان سكن أهلها جبل القلعة، وأتمت تعليمها الابتدائي أيضا. واجتمع في ذلك البيت إرث قبلي من السلط وأرث دمشقي يتقن الطبخ والحياكة والتطريز ويقدر العلم.
كان جدي رحمه الله مثقفا يقدر العلم،
رزق بثماني بنات وثلاثة أولاد أنفق كل ما يملك على تعليمهم. البنت الكبرى فتحية كانت معلمة، والابن الأكبر فتحي مهندسا .. وأمي في ستينيات القرن الماضي تدرس في رام الله! بيت متقدم على عصره، لا يجد ضيرا في أن تتغرب البنت طلبا للعلم. تخرجت في معهد معلمات رام الله للتغرب مرة أخرى إلى معان ! معلمة في تلك الواحة الصحراوية.
لم تكن معان كرام الله وعمان، كانت والدتي كفتيات جيلها إذاك، تكشف رأسها وتقصر ثيابها. وفي معان كانت المرأة يجتمع عليها تشدد البادية ومحافظة المدينة، وكانت نساؤها يغطين الوجه.تقبل أهلها فكرة الذهاب إلى معان مرحلة مؤقتة تنتهي بالانتقال إلى عمان. لكنها في معان تعرف عليها المشرف التربوي الذي درس في جامعة دمشق. لم يتصور أهلها أن تذهب ابنتهم إلى معان ذلك البلد الصحراوي القصي، لكنهم وافقوا على خيارها في الارتباط بعلي أبو هلالة الشاب المثقف الخلوق الصاعد في السلم الوظيفي.
لم يطل البقاء في معان، انتقل الوالد، رحمه الله، إلى عمان ليؤلف مع الدكتور نهاد الموسى مناهج اللغة العربية للمرحلة الثانوية. ومن حسن الحظ أن إدارة المناهج كانت في جبل الحسين قريبا من بيت جدي ، وسكنا قريبا منه. بين بيئات متشددة ومنفتحة مدينية وبدوية وفلاحية استطاعت الوالدة أن تتكيف بلا تكلف. كانت من أوائل النسوة اللواتي ارتدين الحجاب الشرعي الحديث. لم يجبرها والدي عليه لكنها اقتنعت به. في المقابل كانت ربما أول امرأة تقود سيارة في معان. ولم تكن تشعر أن زييها يمنعها من الحياة الطبيعية .
في جبل الحسين نشأنا كانت تدرس في مدرسة الجزائر القريبة، والوالد في المناهج. كيف تربي خمسة أطفال وتدرس؟ لا أنسى موسم الامتحانات المرعب، تصحيح الأوراق وجداول العلامات والشهادات.. فوق ذلك وفي عام 1975 يتعاقد الوالد مع شركة فنيل الأميركية لتطوير الحرس الوطني السعودي مديرا لبرنامج محو الأمية، ولا يرى من المناسب انتقالنا للرياض. ونبقى في عمان لتقوم الأم بدور الأب أيضا. في عامين حقق الوالد دخلا جيدا لكنه كان يخطط لإكمال الدراسة في أميركا، وترك الوظيفة المغرية. لكن قدر الله غير ذلك. في 14-11-1977 توفي بحادث سير في طريق الرياض. لك أن تتخيل امرأة يتوفي زوجها عن 35 عاما تاركا 5 أطفال أكبرهم عمار 9 سنوات وأصغرهم عبدالله أقل من عامين!
لم تستلم وكانت الأم والأب، وأعطتنا من الحب والحنان ما لا تملكه نساء الأرض ومن القوة والشجاعة ما لا يملكه رجالها. تزوجت من عمي هارون، وأنجبت منه عليا وثلاث بنات ليكون مجموع العائلة 9 وزوجين! عائلة ضخمة، كان يضاف لها ضيوف دائمون. بيت بلا أبواب، يدخله من يبحث عن علاج ، أو يحضر لدخول جامعة ، أو يبحث عن وظيفة،أو من يجهز لعرس، أو يقضي شهر عسل !تعلمنا من تلك الأيام أن من يعطي هو من يأخذ وإن السعادة هي أن تمنح السعادة. كان أسامة الذي حصل على ترتيب السابع في الفرع العلمي على مستوى المملكة لا يجد متسعا يدرس فيه في البيت المزدحم بالضيوف. ولم تكن الثانوية العامة لتعفيه من استحقاقات الترحيب والخدمة. ذلك كله كان دروسا لنا جميعا، فأسامة الطبيب لا يضيق بتطلب المرضى وذويهم، وعمار لا يضجر من قيادة كتيبة قوات خاصة.. هذه التربية القاسية تنتج بشرا قادرين على التعامل مع أصعب الظروف.
أم عمار التي كانت تدرسنا وتشركنا في النشاطات وفق أحدث النظريات التربوية التي تعلمتها من والدي هي ذاتها البدوية التي تطبخ لكتيبة وتطلب منك أن تعيَد عماتك وتنقط في الأعراس دون أن تنظر كم بقي من راتبك وتبدأ نهارها بقراءة الصحف واليوم تتابع الفيس بوك والواتس .. وتلك التي تخشى عليك من نسمة الهواء تشجعك على المجازفة وخوض المغامرات والتحدي.. يوما أحضر عمار وهو في السنة الأولى في جامعة مؤتة العسكرية صور القفز المظلي من السماء، وكان قد احتفظ بالفيلم الأول، والثاني سقط من السماء مع الكاميرا التي ورثها عن والدي، بعض الأمهات بكين عندما شاهدن الارتفاع الشاهق الذي قفز منه الأبناء. أم عمار الحنونة داعبته ” يا حوينة الكاميرا ! “.إلى اليوم ترى في الجبن والبخل نقائص يستعاذ بالله منها.
أتكلم معها من الدوحة، وعلى عادتها منذ وعيت، تنكر ذاتها،دائما هي بخير ولا تطلب شيئا لا تريد غير سلامتنا ، لكنه لا تتردد في الطلب لغيرها وتلَح لأصحاب الحاجات. ولا تجد سعادتها إلا في سعادة من حولها. وهي بذلك أسعد الناس. لأن ” أثمن الأشياء هي التي لا ندفع ثمنها” على قول بيل غيتس. “عيال نجاح” محظوظون بأمهم، وكذلك كل من عرفها. أسأل الله أن تكون محظوظة بنا. ,ان نرزق برها ونقدم لها بعضا مما قدمت وتقدم . كل عاما وأنت كما أنت بصحة وعافية وسعادة ورضا أنت ومن تحبين. —