مقالات

الإعلام شكا وتشاؤما


نشرت “الغد” تحقيقا عن الأطباء الذين يجرون عمليات إجهاض مخالفين الأعراف الطبية والقانونية والأخلاقية، جاء ذلك غداة بث الجزيرة برنامجا عن أبي أطفال الأنابيب في المنطقة الدكتور زيد الكيلاني الذي يعد نموذجا في الريادة والمبادرة مع الالتزام بالقواعد العلمية والقانوينة والأخلاقية.

فهل شوهت “الغد” صورة الأطباء؟ وهل الجزيرة جمّلتها؟ قطعا لا. مع أن كثيرا من المسؤولين والمتابعين ما يزالون يعتقدون أن دور الإعلام ينحصر بين حدي الترويج والتشهير. وإلى اليوم يواجه الإعلاميون مشكلة فهم لدورهم تطالبهم بدور “دعائي” لا علاقة له بالإعلام، بقدر ما هو وظيفة الأجهزة الرسمية وشركات الإعلان والمفروض بوسائل الإعلام التي تتعامل معهما بكثافة أن تظل على مسافة منهما.

وتهون الدعاية أمام متطلبات التعبئة، وقد شاهد العالم الدور التعبوي للإعلام الأميركي في غضون “الحرب على الإرهاب”. في التعبئة تدخل مفردات التمجيد بالذات الوطنية والتحريض على العدو، وتغيب عن عمد حقائق ناصعة مثل توابيت الجنود القتلى! ليس في ذلك غضاضة، ففي أثناء العدوان على غزة مثلا، لا يجوز أن نتعامل معها وكأنها حرب الفوكلاند. فالضحية منا والمجرم منهم وليسوا سواء، وفي إعلام المعركة مطلوب تقوية عزيمة الأهل الصابرين المجاهدين والتشهير بالمعتدين المحتلين.

هذا ينطبق على تقرير جولدستون؛ فمع أنه دان المقاومة إلا أنه شكّل في الوقت ذاته إدانة نادرة للمعتدين، وفرق بين مقاومة مصنفة ضمن “قوائم الإرهاب” ولا يستطيع قادتها دخول مقر الأمم المتحدة وبين دولة العدو التي تزهو على العالم باعتبارها ضحية الإرهاب.

وفي التعبئة لا بد من تشديد النكير على العدو، فإن تساوى مع المقاومة في “الإرهاب” من وجهة نظر الغرب فهذا نصر تاريخي. ويكفينا أن لا يهنأ قادته بزيارة بلد غربي بفضل ملاحقة القضاة ومنظمات حقوق الإنسان.

لسنا النرويج البعيدة عن الحروب، نحن بلد ما يزال نصف سكانه محرومين من حق العودة. والقضية الفلسطينية سواء تعلقت بفلسطينيي   48 أو غزة أو الأقصى هي قضية داخلية، ويتعامل معها وفق إعلام التعبئة. ليس سواء المعتكفون في الأقصى والمعتدون عليه فوق الأرض وتحت الأرض.

مقابل التعبئة ضد العدوالخارجي، لا يجوز أن يتخلى الإعلام داخليا عن الروح النقدية. وهي لا تتعارض مع تسجيل المنجزات، ولا أرى في الإعلام تقصيرا عن رصد المنجزات، سواء كانت فردية أو من مؤسسات القطاع الخاص والأهلي أم كانت رسمية. والكارثة أن يتحول الإعلام إلى جهاز تعبئة في أحوال السلم.

من علامات التعبئة، أن زميلة تعد تقريرا عن الأيتام بعد أن يتجاوزوا سن الثامنة عشرة، فطلبت رأي وزارة التنمية الاجتماعية، وبعد أن استعد المسؤول المختص في الورزارة للإجابة طلب منها استئذان المسؤول الإعلامي في الوزارة وهو صحافي سابق، فكان رده أن الأيتام ” أمانة في رقابنا” ولن يتحدث عنهم أحد في الوزارة حتى لو للتلفزيون الأردني! قبل ذلك رفضت العقلية الإعلامية ذاتها الحديث عن المسنين وعن ذوي الاحتجاجات الخاصة! المطلوب وفق هذه العقلية أن يتحدث الإعلام عن دور الوزارة في تصفية جيوب الفقر في البلاد.

نحتاج على قول الإعلامي الأميركي العريق دان راذر في مقاله المنشور في” الغد” أمس  إلى :”أخبار تولّد الفهم وليس الازدراء، أخبار تعزز نزعة الشك الصحية في أعمال السلطة وليس نشر التشاؤم الذي يشل الحراك. إننا في حاجة إلى المعلومات الأساسية التي يتطلبها أي شعب يحكم نفسه”. وفي السعي في طريق الشك المشروع قد يقع الإعلام في شراك التشاؤم، وهي شراك لا تقل ضررا عن شراك “التوهم” بحيث يقوم الإعلام بدور حبوب الهلوسة، وتخال أن البلاد تطير فوق هام السحب وهي مكانها تسير!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *