في السابع من يونيو/حزيران الماضي، اجتمع البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) للتصويت على تمديد قانون يقضي بتطبيق القوانين المدنية الإسرائيلية على المستوطنين المتطرفين الذين أقاموا مستوطناتهم على أراضي الضفة الغربية المحتلة، بخلاف تعهُّدات إسرائيل الرسمية والدولية واعترافها الشكلي بحدود 1967. وقد ارتفعت أصوات برلمانية عديدة حينئذ ضد تمديد هذا القانون، الذي يُعَدُّ فعليا شكلا من أشكال الفصل العنصري، وهي أصوات توقَّع الكثيرون أن تخرج من صفوف أحزاب اليسار في الائتلاف الإسرائيلي الحاكم، والقائمة العربية الموحَّدة برئاسة النائب العربي “منصور عباس”. بيد أن المفاجأة أتت حين ظهر تحالف المعارضة اليميني بزعامة “بنيامين نتنياهو” من بين من معارضي تمديد القانون.
لقد صوَّت “نتنياهو” كي يخضع المستوطنون الذين يُمثِّلون قاعدته الشعبية للقوانين العسكرية بدلا من القوانين المدنية، ما يضعهم تحت المظلة القانونية نفسها التي يخضع لها الفلسطينيون ممن احتُلَّت أراضيهم. وأراد “نتنياهو” بهذا التصويت ضد معتقداته ومعتقدات أقوى مؤيّديه من اليمنيين توسيع الانقسامات داخل الحكومة الهشَّة التي يترصَّد لانهيارها في أي لحظة منذ وصولها إلى السلطة. وبالتحديد أراد الرجل إقناع النوَّاب المتطرفين في الكنيست بالانسحاب من الائتلاف والانضمام إلى معسكره، إذ لا يزال “نتنياهو” يجادل بعد عام من إزاحته عن السلطة بأن حكومة يمينية بقيادته هي الحكومة الوحيدة التي يمكنها أن تُنفِّذ أجندة يمينية حقيقية.
في هذه الواقعة الغريبة والفريدة من نوعها، يظهر بجلاء أن نتنياهو مُستعِد لفعل أي شيء من أجل إسقاط حكومة خصومه، ومن ثم إتاحة الفرصة لنفسه كي يعود رئيسا للوزراء مرة أخرى. وبالفعل، بدأت آماله تتحقَّق بعد نحو أسبوعين من التصويت ضد القانون آنف الذكر، فمع عجز الحكومة عن حشد ما يكفي من الأصوات لتمديد القانون، انهارت الحكومة وصوَّت الكنيست على حل نفسه في 20 يونيو/حزيران الماضي، فاتحا الباب أمام جولة جديدة من الانتخابات البرلمانية، وهي الجولة الخامسة خلال أقل من أربع سنوات، في خضم أزمة سياسية لا يبدو أنها ستنتهي قريبا.
سقوط الحكومة “الطموح”
بعد مرور عام واحد فقط، أُسدِل الستار على أحد أكثر المشاريع السياسية طموحا في تاريخ دولة الاحتلال الإسرائيلي، إنها الحكومة التي تَشكَّلت في يونيو/حزيران 2021 عندما تمكَّن رئيس الوزراء المُناوِب “يائير لبيد” ورئيس الوزراء “نفتالي بينيت” من جمع ثمانية أحزاب من شتى أنحاء الطيف السياسي، من اليمين والوسط واليسار والحركة الإسلامية نفسها، لتشكيل ائتلاف حاكم فريد من نوعه في تاريخ إسرائيل، وإسقاط حكومة “بنيامين نتنياهو” التي هيمنت على السياسة الإسرائيلية لأكثر من عشر سنوات. والآن، سيقود لبيد الحكومة لعدة أشهر خلال فترة الدعاية الانتخابية، حتى يتوجَّه الإسرائيليون إلى صناديق الاقتراع مطلع نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
بالعودة إلى الوراء، يمكن القول إن تلك الحكومة سارت منذ البداية نحو قرارات مهمة لحلحلة الجمود السياسي الذي واجهته إسرائيل مؤخرا، وكان أهم قراراتها تمرير ميزانية جديدة بعد أكثر من ثلاث سنوات على تعطيلها. وعلى الصعيد الدولي، ورغم خلافاتهما حول الاتفاق النووي الإيراني وإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس للفلسطينيين؛ نجحت الحكومة في ترسيخ علاقة إسرائيل مع إدارة الرئيس الأميركي “جو بايدن”، ودفع وتيرة التطبيع مع دول عربية عديدة. علاوة على ذلك، شهدت حكومة “بينيت” واحدة من أكثر الفترات هدوءا مع قطاع غزة في السنوات الأخيرة، رغم تصاعد موجة من العمليات الفدائية الفلسطينية داخل دولة الاحتلال، التي وُصفت بأنها الأشد خطورة منذ عدة سنوات. وبينما تراجعت عملية إطلاق الفصائل الفلسطينية للصواريخ على جنوب دولة الاحتلال، ردَّت حكومة “بينيت” بتقديم آلاف تصاريح العمل الجديدة لسُكان غزة.
ولكن في نهاية المطاف، تسبَّب التنوُّع الأيديولوجي الذي تفاخرت به الحكومة عند تشكيلها في سقوطها، إذ إن الاختلافات بين جناحَيْ الائتلاف أدَّت إلى انشقاق اثنين من النوَّاب اليمينيِّين، أولهما عضوة الكنيست المتطرفة “إيديت سيلمان” التي انضمت إلى المعارضة قبل ثلاثة أشهر، ثم عضو الكنيست “نير أورباخ” الذي انشق الشهر الماضي. وقد تسبَّب انشقاقهما في حرمان الائتلاف الحاكم من أغلبيته البرلمانية، بالتزامن مع الضغط المستمر من تحالف نتنياهو واليمين المتطرف نحو تقويض شرعية الحكومة عن طريق التركيز على كونها “داعمة للإرهاب” بالنظر إلى وجود قائمة “منصور عباس“ العربية الموحَّدة فيها، رغم أن “عباس” سبق وتحالف مع نتنياهو عندما حاول الأخير تشكيل الحكومة عامَيْ 2020 و2021.
وصلت التوترات إلى ذروتها في الأخير عندما عجزت الحكومة عن حشد ما يكفي من الأصوات لتجديد مجموعة من اللوائح التي تجعل القوانين الإسرائيلية قابلة للتطبيق على المستوطنين اليهود في الضفة الغربية المحتلة، حيث نجحت جميع الحكومات السابقة في إسرائيل بتجديد هذه القوانين تجديدا روتينيا على مدار السنوات الخمسين الماضية تقريبا، فيما عصف الأمر بحكومة “بينيت” إثر رفض الحزب العربي لهذا التمديد، وكذلك رفض “نتنياهو” السياسي اليميني الأثقل وزنا حتى الآن، الذي لا يبدو أنه سيرحل بالسرعة التي اعتقدها خصومه، ولا تبدو هيمنته على السياسة الإسرائيلية في طور الأُفول كما تصوَّر ورغب كثيرون.
ظلال “نتنياهو” التي لا تنقشع
“في هذا المساء خبر رائع لمواطني إسرائيل.. إن الحكومة التي اعتمدت على مؤيدي الإرهاب قد أنهت مسارها”. لم يسبق أحد “نتنياهو” في التعليق على حل الحكومة الإسرائيلية، فلم ينتظر الرجل لحظة واحدة حتى يُفصِح عن سعادته الغامرة بسقوط الحكومة، وسرعان ما قدَّم نفسه -من جديد- بوصفه الترياق الأوحد لأزمة السياسة الإسرائيلية، والسياسي القادر على تنصيب حكومة يمينية مستقرة تضم حزبه “الليكود” إلى جانب الفصائل اليمينية المتطرفة الأصغر. وتأتي عودة “نتنياهو” تلك بمذاق خاص بعد أن ظهر في عيون أنصاره خلال سنوات حكمه قائدا أنقذ “الأمة” بسبب حملته الشرسة ضد البرنامج النووي الإيراني وضد الفصائل الفلسطينية التي خاض ضدها عمليات عسكرية بلا هوادة، كما كان واحدا من أبرز القادة الإسرائيليين الذين ساهموا في تخفيف عزلة إسرائيل العربية عبر دفع وتيرة التطبيع الرسمي مع عدد من الدول العربية
نتيجة لذلك، خرجت استطلاعات الرأي تتحدَّث عن توقعات بحصول حزب “نتنياهو” بسهولة على مقاعد برلمانية أكثر من أي حزب آخر في الانتخابات المُقبلة، ورغم استبعاد حصول الحزب على الأغلبية الكاملة، فإنه سيظل الكُتلة الأكبر في البرلمان. كما تتوقَّع الاستطلاعات أن يُغيِّر بعض النوَّاب اليمينيِّين -الذين رفضوا إعادة “نتنياهو” إلى السلطة العام الماضي- من رأيهم في الخريف حين تُجرى الانتخابات، مما يمنحه سيطرة أوسع على البرلمان، وقدرة على تشكيل ائتلاف حكومي يميني مرة أخرى. والأهم من كُل ذلك هو أن نتنياهو لا يزال يملك قاعدة شعبية واسعة تمسَّكت بتأييده حتى بعد أن فقد السلطة، فهو بالنسبة لهم مَن قدَّم الدعم لإقامة المستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأشرف على انهيار “مفاوضات السلام” الإسرائيلية-الفلسطينية، إلى غير ذلك من “إنجازات” في نظر تلك القاعدة الشعبية.
في هذا السياق، يُعقِّب “أنطوان شلحت”، مدير وحدة المشهد الإسرائيلي بالمركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية “مدار”، قائلا إن أهم ما في جعبة نتنياهو هو أن شعبيته ما زالت مرتفعة رغم تلك السنين، ورغم محاكمته الجنائية، ورغم ظهور أصوات عديدة داخل معسكر اليمين عارضت عودته إلى الحكم، مُضيفا في حديثه لـ “ميدان” أن “هذه الشعبية هي ما تُبقيه في صلب الحلبة الحزبية والسياسية، ويمكن أن تُعينه على استعادة منصبه رئيسا للحكومة بعد أن نجح في أن يستأثر بزعامة معسكر اليمين الإسرائيلي الذي يُمثِّل الأغلبية في الساحة السياسية حتى الآن”. وبحسب “شلحت”، يبدو واضحا أن نتنياهو سيلجأ إلى الورقة العنصرية، كما دأب دوما، عبر التشهير بحكومة “بينيت – لبيد” كونها استندت إلى أغلبية من ضمنها قوة حزبية عربية لأول مرة في تاريخ الائتلافات الحكومية الإسرائيلية
يعتقد “شلحت” أن مجرَّد نجاح المعارضة الإسرائيلية في فرط عقد الحكومة الحالية يعني أن الحديث عن نهاية عهد نتنياهو سابق لأوانه. ويتوقع أن عودة نتنياهو يمكن أن تتحقق من خلال سيناريو من اثنين: أولهما أن يتمكَّن من إقامة حكومة برئاسته ضمن الكنيست الحالي عن طريق استقطاب أعضاء من الائتلاف الحكومي الساقط للتوّ، وهو سيناريو ضعيف لكنه وارد، وثانيهما هو الراجح بعد الانتخابات إذا ما نجح في أن يحصل مع حلفائه على أكثر من نصف مقاعد الكنيست، وهو السيناريو الذي تُشير إليه استطلاعات الرأي العام التي جرت مؤخرا.
هل يعود نتنياهو إلى السلطة هذا الخريف؟
مع بدء موسم الانتخابات، يدور حديث عن مناقشة “قانون المُتَّهم” الذي يمنع المتهم بمخالفات جنائية من تشكيل حكومة في دولة الاحتلال، ويستهدف هذا القانون بطبيعة الحال نتنياهو، الذي يُحاكَم حاليا بتهم فساد يُصِرُّ على براءته منها، ويُمكِن لمثل هذا القانون أن يعرقل جهوده للحاق بسباق الانتخابات. بيد أن فُرَص تمرير مشروع هذا القانون تكاد تكون معدومة، ويرجع السبب بالأساس إلى معارضته من جانب المستشار القانوني للكنيست، الذي يعتبره جزءا من الخلاف السياسي بين المعارضة والائتلاف في دولة الاحتلال. ويعني ذلك أنه حتى اللحظة ما من قانون يمنع نتنياهو من تولي منصب رئيس الوزراء أثناء محاكمته التي قد تستمر لسنوات. ولن تنتهي الاتهامات ضد “نتنياهو” إلا إذا وافق على صفقة إقرار بالذنب، أو ثبتت إدانته أو براءته، أو إذا سحب المُدَّعون اتهاماتهم إليه
على أي حال، لا يتعلَّق طريق “نتنياهو” نحو كرسي رئاسة الوزراء من جديد بقضية محاكمته الجارية فحسب، إذ يوجد منافس شرس أمامه هو “يائير لبيد” الذي يرأس حاليا حزب “يش عتيد” الوسطي، ويتولَّى الآن رئاسة الوزراء، وسيواصل الخدمة في المنصب حتى تُشكَّل حكومة جديدة بعد الانتخابات. يظهر “لبيد” الآن في صور سيكون لها وزنها في حملته الانتخابية، فهو يسافر إلى تركيا تارة ويُستقبَل بحفاوة بوصفه مسؤولا كبيرا، وهو يستعد لاستضافة الرئيس “جو بايدن” الشهر المقبل خلال زيارته لإسرائيل، كما يُتوقَّع أن ينتقل إلى المقر الرسمي لرئيس الوزراء في شارع “بلفور” بالقدس المحتلة. وفي حين تمنح استطلاعات الرأي “لبيد” نحو 20 مقعدا في الانتخابات المقبلة، وهو عدد قليل مقارنة بما تمنحه الاستطلاعات ذاتها لصالح “نتنياهو” وحزبه الذي يتوقع أن يفوز بنحو 35 مقعدا، فإنه لا يزال بإمكانه حشد أحزاب أخرى لتكوين أغلبية في الكنيست وتشكيل الحكومة.
من جهة، يستطيع “لبيد”، وهو مهندس تحالف “بينيت – لبيد” الذي كتب باسمه سابقة التحالف مع حزب عربي، تقديم وجه جديد نسبيا للسياسة الإسرائيلية، ويستطيع كذلك الظهور بمظهر زعيم المعسكر العلماني والليبرالي المعتدل سياسيا الذي يقف على طرف نقيض مع “نتنياهو”. وسيُركِّز الرجل على الأرجح على تقديم نفسه بوصفه زعيما لليسار الوسطي، وكذلك على توجيه التُّهَم إلى خصمه الذي يُحاكَم الآن بالرشوة والاحتيال. وتكمن إستراتيجية لبيد في قيادة معسكر فضفاض يضم كل مَن يريد “أيَّ شخص عدا نتنياهو” في الانتخابات المقبلة، بما في ذلك بعض العناصر اليمينية الني ترفض أي ائتلاف حكومي برئاسة “نتنياهو”، مثل وزير العدل “جدعون سار”، ورئيس حزب إسرائيل بيتنا “أفيغدور ليبرمان
لكن على الجهة الأخرى، يعاني “لبيد” من افتقاره إلى الخبرة الأمنية والعسكرية، وهو لا يتمتع بمهارات قيادية حقيقية من وجهة نظر الكثيرين، ومن ثمَّ فقد يرى الإسرائيليون فيه قائدا ضعيفا في وقت يعانون فيه بسبب غلاء تكاليف المعيشة والتضخُّم العالمي الناتج عن الحرب الأوكرانية، ويعانون فيه أيضا من تصاعد التوتُّر مع الفلسطينيين على أكثر من جبهة، مما يُعزِّز فُرَص “نتنياهو” بوصفه الرجل القوي الذي يواجه المقاومة الفلسطينية ويضرب بيد من حديد ويرفض أن يضع يده بيد الأحزاب العربية “الداعمة للإرهاب” على حد قول أنصاره.
في نهاية المطاف، تقودنا الأزمة السياسية في دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى عدة سيناريوهات، أحدها عودة “نتنياهو” إلى الحُكم دون انتخابات، أي تشكيل حكومة بديلة برئاسته، حيث يتخوَّف قادة الأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة غير الراغبين بخوض الانتخابات من تآكل قوتهم، مما قد يدفعهم نحو الانحياز إلى “نتنياهو” الذي يحتاج إلى دعم 61 نائبا لتشكيل الحكومة. أما أهم ما سيُميِّز الانتخابات الإسرائيلية القادمة فهي أنها لن تنصبّ على الأمن القومي الإسرائيلي أو القضية الفلسطينية أو الظروف المعيشية للإسرائيليين أو غير ذلك، وإنما ستتمحور -على غرار سابقاتها الأربع في العامين الأخيرين- حول “بنيامين نتنياهو” وحضوره في الحياة السياسية، لا سيما والرجل مُصمِّم على استعادة عرشه أكثر من أي وقت مضى، وإثبات كذب التوقُّعات التي تنبَّأت بأفول “زمان نتنياهو”.المصدر : الجزيرة