بعد 7 أشهر من التعطل عن العمل بفعل جائحة كورونا لملم محمد* وزوجته ذكريات منزلهما -الذي أمضيا فيه 15 عاما- وغادراه مرغمين مع أبنائهما الثلاثة بعد أن استنفدا جميع مدخراتهما في نهاية العام الأول من الجائحة العالمية.
ترك انهيار قطاع السياحة بسبب الإغلاقات العالمية محمد وعائلته على الرصيف في بلد شهد تسريح قرابة 140 ألف عامل/عاملة وانحسار إيراداته السياحية إلى الربع، من 4.1 مليارات دينار (5.7 مليارات دولار) في 2019 إلى مليار دينار (1.4 مليار دولار) في العام التالي.
حين حلت “الفاجعة” كان الأربعيني محمد يصعد سلم الترقية في مكتب سياحي بعمّان منذ تخرج في كلية اللغات بجامعة اليرموك عام 2005 متسلحا باللغات الفرنسية، والإيطالية، والإنجليزية، وصل محمد إلى منصب مدير العمليات اللوجستية بدخل ألف دينار شهريا (1400 دولار) صعودا من 300 دينار (420 دولارا) في بداية حياته المهنية.
نقطة التحول
في منتصف يونيو/حزيران 2020 قرر أصحاب العمل الاستغناء عن 13 موظفا -من بينهم محمد- وإيقاف عمل المنشأة لدى وزارة العمل بسبب تراكم الديون وعدم قدرتهم على جمع مستحقاتهم في السوق التي أغلقت بفعل أوامر الدفاع لمدة شهرين في ربيع 2020، ذروة الموسم السياحي، وتلقى المسرحون راتب شهرين مقدما وتُركوا لمواجهة أعباء الحياة.
“مخاجلة”، هكذا يبرر محمد سبب توقيعه على استقالته، أما زميله عمر* -الذي عمل معه مدة 12 عاما- فيرجع قبوله الاستقالة إلى “الثقة المتبادلة” بينه وبين أصحاب العمل.
قصة محمد وزملائه تكررت أيضا مع يزن الذي يعمل في مكتب سياحي منذ حصوله على بكالوريوس في الإرشاد السياحي عام 2004.
في 2015 انتقل يزن* للعمل في مكتب سياحي ضمن عقد مفتوح، قبل أن يطلب المكتب من وزارة العمل إيقاف عمله وإنهاء عقود العاملين لديه (ما يقارب 25 موظفا) بالاستناد إلى أوامر الدفاع.
تحايل بالقانون
تبين ليزن وزملائه أن المكتب ظل يعمل، فاشتكوا إدارته لدى وزارة العمل التي أرسلت فريق تفتيش ليجد أن موظفي التحصيل فقط من يعملون حاليا و”لفترة قصيرة”، وفق تبرير أصحاب المكتب، وبالتالي أغلقت الشكوى على غرار عشرات الشكاوى المماثلة.
بين مارس/آذار 2020 ويوليو/تموز 2021 تقدمت 136 منشأة سياحية بطلبات إيقاف العمل، 89 منها استأنفت أنشطتها في ضوء انفراج جزئي في القطاع، وظلت 47 منشأة تحت الإيقاف.
وتتطلب استثناءات إيقاف العمل أن تقدم الشركة طلبا إلكترونيا في موقع وزارة العمل يتم تجديده كل شهرين في حال الرغبة باستمرار الإيقاف.
وعلى وقع التسريح تلقت وزارة العمل 10 آلاف و452 شكوى من عمال في القطاع السياحي بين يونيو/حزيران 2020 ويونيو/حزيران 2021، من بينها 4913 شكوى من عمال بالمطاعم والنقل السياحي والفنادق.
يساهم القطاع السياحي بنسبة 14% من الناتج المحلي الإجمالي بدخل 4.1 مليارات دينار أردني (5.78 مليارات دولار) للعام 2019، ويشغل ما يزيد على 53 ألف عامل على نحو مباشر، و30 قطاعا تجاريا مساندا، كالفنادق، والمطاعم، والنقل السياحي، ومحلات التحف
استثناءات غير قانونية
في مقابلات مع 20 موظفا في 3 منشآت سياحية وجدنا أن إنهاء العقود محددة المدة لم يشمل مديري الأقسام والعاملين في قسم المحاسبة والتحصيل.
ويجادل المحامي معاذ المومني المختص في قضايا العمال بأن “أوامر الدفاع لم تنص على مثل هذه الاستثناءات، إذ إن الإيقاف يجب أن يشمل جميع الموظفين، وأي إجراء عكس ذلك يعد غير قانوني”.
ويؤكد المومني أنه “يجب على أوامر الدفاع توضيح ماهية الإجراءات والقوانين المترتبة على المنشأة المقدمة على طلب إيقاف عمل وإضافة استثناءات، ليتمكن أصحاب المنشآت من تحصيل أموالهم من مختلف الأطراف وإجراء المخالصات للمنشأة”.
لم تتطرق مؤسسات الدولة المختلفة إلى وجود أي استثناءات في أمر الدفاع لآلية إيقاف العمل، مما اضطر الشركات إلى استمرار عملها في قسم المحاسبة والتحصيل بشكل مخالف لأوامر الدفاع الملزمة لوقف العمل بصورة كلية.
تداخل الصلاحيات وضبابيتها
بدوره، يؤكد مدير وحدة المركز الإعلامي للمركز الوطني للأمن وإدارة الأزمات أحمد النعيمات أن “الجهة التي تصدر أوامر الدفاع هي دولة رئيس الوزراء بصفته الموصوفة في الدستور، وهي السلطة التنفيذية المعنية الموضوع”.
من جانبها، أحالت وحدة الإعلام في رئاسة الوزراء تساؤلاتنا إلى وزارة العمل بصفتها معنية بالتصريح عن أمر الدفاع الخاص بعقود العمل.
أنشئ المركز الوطني للأمن وإدارة الأزمات لتوحيد جهود المؤسسات الوطنية ذات العلاقة بغية الوصول إلى الاحترافية في مجالي الاستعداد والاستجابة للأزمات الوطنية -بنوعيها الطبيعية والتي من صنع الإنسان- بأقل جهد ووقت وتكلفة وخسائر ممكنة، وأصبح نظامه فاعلا اعتبارا من أبريل/نيسان 2015
ردت وزارة العمل بأن المنشآت الحاصلة على موافقة لجنة الإيقاف “تخضع لحجز تحفظي على رصيدها لدى البنوك وتمنع من السحب أو التصرف طوال فترة الإيقاف، كما تمنع من ممارسة أي أعمال فترة الإيقاف.
ولم تحدد الوزارة عدد المخالفات التي وجهتها لمخالفي أوامر الدفاع، ولم تعلق على قصور الأوامر لجهة خلوها من استثناءات الإدارة المالية.
وبناء على ذلك، يرى المحامي معاذ المومني أن هذا يعد “خطأ في أوامر الدفاع” سمح بوقوع هذه التجاوزات والمتمثلة في:
– عدم تطرق أوامر الدفاع لبقاء قسم المحاسبة والتحصيل بهدف تحصيل أموال المؤسسة.
– عدم حصول العاملين غير الخاضعين للضمان على نهاية خدمة وكافة مستحقاتهم.
ويشرح المومني الفارق بين إيقاف العمل الكلي والمؤقت، لافتا إلى أن العلاقة تنتهي في الحالة الأولى بين العامل والمدير، فيما تبقى العلاقة قائمة في الحالة الأخرى ويعود الموظف إلى عمله بدون الحاجة لعقد جديد.
كما أن تعليق عمل المنشأة مؤقتا أو لظروف خاصة يتطلب موافقة الوزير بتنسيب لجنة مكلفة بالتحقق من سلامة إجراءات صاحب العمل خلال مدة لا تتجاوز 15 يوما من تاريخ التبليغ.
وترفض رئاسة الوزراء التعليق على تشخيص المومني أو الرد على أي استفسار، مشيرة إلى أن تطبيق أوامر الدفاع منوط بوزارة العمل ومركز إدارة الأزمات.
من جانبها، تفيد وزارة العمل بأنها أحالت هذا الموضوع إلى إدارة الضمان الاجتماعي، وتدعو العاملين إلى التوجه للضمان من أجل نيل بدل تعطل عن الضرر الذي وقع عليهم بعد إيقاف مؤسساتهم عن العمل.
وأنشئت مؤسسة الضمان الاجتماعي في الأردن عام 1978 كنظام تأميني تكافلي عام يهدف لحماية الأفراد اجتماعيا واقتصاديا في حال التعرض لأحد الأخطار الاجتماعية، مثل الشيخوخة، والعجز، والوفاة، وإصابات العمل، إذ يحدد القانون مزايا نظام مؤسسة الضمان الاجتماعي ومصادر تمويله.
خلال جائحة كورونا واستكمالا لإدامة عمل القطاع الخاص لحماية الاقتصاد الوطني تم استحداث برامج تابعة لمؤسسة الضمان الاجتماعي، خاصة للقطاعات والأنشطة الاقتصادية الأكثر تضررا، وذلك من خلال إقرار أوامر دفاع عدة تنظم آلية هذه البرامج والمستفيدين منها.
في ربيع 2020 أطلق الضمان برنامج “استدامة” الذي استفادت منه 849 منشأة و17 ألفا و246 عاملا، بما قيمته 15 مليونا و657 ألف دينار.
كما أطلقت المؤسسة برنامجا لدعم العاملين في قطاع السياحة يعطي العامل المؤمن عليه أجرا شهريا يشكل 50% من أجره الحقيقي بما لا يزيد على 400 دينار ولا يقل عن 220 دينارا، على أن تسهم المنشأة بخُمس المخصصات الطارئة.
استفاد من هذا البرنامج 256 منشأة سياحية و5732 عاملا، ووصل مجموع المبالغ التي صرفتها المؤسسة على هذا البرنامج إلى 3.8 ملايين دينار.
وأوضح الناطق باسم الضمان الاجتماعي شامان المجالي أن هذه المبالغ ليست منحة لهذه المنشآت، وإنما دين عليها بفائدة 3% تتحملها الحكومة.
المستفيدون من برامج الضمان الاجتماعي من القطاع السياحي
دانا* (33 عاما) عملت في القطاع السياحي بين 2007 وتاريخ تسريحها القسري أواخر 2020 قبل الجائحة بـ4 أشهر.
وقّعت دانا عقدا مفتوحا كمستشارة تطوير أعمال براتب 1500 دينار (2100 دولار)، لكن مع بداية الجائحة فرضت الشركة على جميع موظفيها الـ20 توقيع عقود جديدة محددة المدة لنهاية 2020.
يتعارض هذا الإجراء مع أمر الدفاع بحسب المحامي معاذ المومني، وفوق ذلك لم يدفع المكتب الرواتب التي نصت عليها قوانين الدفاع لشهري مارس/آذار وأبريل/نيسان لعدم توفر السيولة.
ويرى المحامي المومني في إجراء الشركة مخالفة لأمر الدفاع “أي إجراء آخر يكون غير قانوني ومخالفا لأوامر الدفاع والبلاغات الصادرة عنه”.
هكذا يشخّص المومني الحالات التي رصدتها معدة التحقيق حول إنهاء عقود محددة المدة تعسفيا، ذلك أن البلاغ “7” من أمر الدفاع رقم “6” المادة 4 ينص على أن “يتم تجديد عقد العمل محدد المدة للعامل الأردني تلقائيا بموجب هذا البلاغ وحتى تاريخ انتهاء العمل بقانون الدفاع ما لم يتم الاتفاق على تمديده مدة أطول”، وذلك وفقا للشروط التالية:
1- أن يكون العقد قد انتهت مدته بتاريخ 30 أبريل/نيسان 2020 وما بعده.
2- أن يكون العقد قد سبق تجديده 3 مرات فأكثر.
سليم* -الذي يملك مكتب سياحة وحجوزات تذاكر- يقول إنه اضطر في أغسطس/آب 2020 لإغلاق مكتبه بعد الاتفاق مع الموظفين على تقديم استقالاتهم على أمل عودتهم للعمل فور تحسن الأوضاع.
يرجع سليم سبب الإغلاق إلى غياب دعم الحكومة لأصحاب مكاتب السياحة، فضلا عن تكرار تقلبها في اتخاذ القرارات، مما أربك أصحاب المكاتب ودفعهم صوب خيار الإغلاق.
لم يقدم سليم طلب إيقاف إلى وزارة العمل، واكتفى بشرح وضعه العام لموظفيه الثمانية الذين لم يعارضوا تقديم استقالاتهم بحسب قوله “الموظفون كانوا متفهمين أكثر من الحكومة، كلهم تفهموا الوضع وقدموا استقالاتهم”.
تحت وطأة الجائحة فشلت 307 مكاتب سياحة من بين 800 في تجديد ترخيصها حتى أبريل/نيسان 2021، وفي هذه المكاتب المنتشرة في محافظات الأردن الـ12 كان يعمل قرابة 10 آلاف موظف/موظفة.
“قليل دائم خير من كثير منقطع”
طلب محمد وزملاؤه من مديري المكتب إعادتهم للعمل أملا بإدراجهم مجددا في الضمان الاجتماعي، ليتمكنوا من الاستفادة من برامج الإقراض حتى لو كانت الأجور منخفضة، وكما يقول محمد ” قليل دائم خير من كثير منقطع”.
البلاغ رقم 18 صادر استنادا إلى أحكام أمر الدفاع رقم 6 لسنة 2020 حول تنظيم أجور العاملين في القطاع الخاص أمر بدفع 75% من الأجر الشهري -بين ديسمبر/كانون الأول 2020 ومايو/أيار 2021- في القطاعات والأنشطة الأكثر تضررا، على أن تشمل تلك النسبة أجور الإدارة العليا.
قروض بعيدة المنال وبرامج انتقائية
يشكو جمال الضامن نائب رئيس جمعية وكلاء السياحة والسفر الأردنية من أن “وزارة السياحة لم تقدم دعما مباشرا للمكاتب السياحية”، لافتا إلى أن الإسناد “اقتصر على إعلان وزيرة السياحة السابقة مجد الشويكي تمويلا بقيمة 30 مليون دينار من خلال إعفاء مالكي وممارسي المهن السياحية من رسوم تجديد التراخيص للعام الماضي”، ويؤكد أن ذلك لم يتحقق.
وأشار إلى أن المكتب السياحي -الذي فقد جل دخله منذ 18 شهرا- يدفع قرابة 500 دينار رسوم تراخيص سنويا، بالإضافة إلى 350 دينارا كرسوم لجمعية وكلاء السياحة والسفر الأردنية، إلى جانب متوسط حجم رواتب بواقع 6 آلاف دينار شهريا (8462 دولارا) وتكاليف تشغيلية.
ويقر الضامن بأن مكاتب سياحية استفادت من برامج البنك المركزي للقروض بسعر فائدة ثابت طوال عمر التمويل، إلا أن معظم المكاتب الصغيرة والمتوسطة لم تقدم على هذه الخطوة، بسبب عدم وضوح الوضع الوبائي ومستقبل العمل في القطاع السياحي أو وجود نقطة زمنية محددة لاستئناف العمل بوضعه الطبيعي السابق، ليتمكن صاحب المكتب من تسديد دفعات القروض.
لم يستفد يزن من برنامج بدل التعطل إلا لشهر مايو/أيار2020 بقيمة 350 دينارا، لعدم توفر رصيد ادخاري في حساب اشتراك ضمانه الاجتماعي، ولم يستلم أي دفعات أخرى منذ ذلك التاريخ وحتى بدء العمل على برنامج “مساند-1” مطلع 2021، إذ استلم حتى تاريخ نشر هذا التحقيق 6 دفعات بدءا من مارس/آذار على النحو التالي: 500 دينار لأول شهرين، ثم 350 دينارا لمدة 4 أشهر متتالية.
تتلقى دانا اليوم عروضا للعمل في مكاتب سياحية إلا أن الراتب المطروح لا يغطي مواصلاتها في ظل أزمة المواصلات في عمّان، بالإضافة إلى عدم توافر وسائل مواصلات عامة قريبة من منزلها.
أما محمد فيعود إلى نقطة انطلاقه في محافظة إربد بجانب منزل عائلته بعد أن قضى 10 أعوام وهو يسعى في سبيل تحقيق النجاح وزيادة أرباح المكتب السياحي الذي كان يعلق عليه آماله، وهو يعمل اليوم سائقا على التطبيقات الذكية لتأمين احتياجات أطفاله الأساسية.
ويتساءل محمد اليوم إن كان أخطأ في وضع ثقته في غير محلها؟ أم هي غلطة تتحملها الحكومة لعدم مراقبة هذه التجاوزات والمحاسبة عليها؟ أم هي مسؤولية جمعية الوكلاء السياحيين في عدم نقل معاناة الموظفين وتحقيق العدل لهم؟ أم هو ظرف لم يكن في الحسبان غيّر قواعد اللعبة؟
*اسم مستعار حفاظا على سرية معلومات الموظفين.
أنجز هذا التحقيق من قبل شبكة “إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية” (أريج) ونشر بالاتفاق مع موقع الجزيرة نت.
المصدر : الجزيرة