مقالات

الإصلاح الموجود والإصلاح الموعود

موجة المديح التي تواجهها الحكومات الأردنية مطلع تشكيلها، ضررها أكبر من موجات النقد، وأحيانا التجريح والتحشيد ضدها. فتزوير الحقائق يتم بتزيينها أحيانا لا بتشويهها، والطبيب المخلص هو من يقدم التشخيص القاسي والدواء المر، لا التطمينات الخادعة التي ترم الجرح على فساد يبين فيه إهمال الطبيب.

فالقول أن الإصلاح الموجود عندنا في الأردن ” شامل ” خداع للذات قبل أن يكون خداعا للآخرين. صحيح أنه شامل بوصفه شعارا أو وعودا لكن الواقع غير ذلك تماما. فالإصلاح الاقتصادي في الأردن، برغم قسوته ومحاذيره الاجتماعية، نفذ بحرفية منذ العام 1989 وإلى اليوم، لكن رافقه تباطؤ في الإصلاح السياسي ابتداء، إلى أن وصلنا إلى مراحل توقف فيها هذا الإصلاح أو تراجع.

 فالحالة السياسية التي عاشتها البلاد من خلال مجلس النواب الحادي عشر كانت متقدمة، بما لا يقاس، على ما بعدها. كان مجلس النواب قوة وازنة معبرة عن مصالح العامة، لا قوة مشتتة معبرة عن مصالح متصرفيات وأقضية متناثرة. 

 في ذلك المجلس  كان رئيس الوزراء (غالبا) ما يتفق مع  قوى سياسية على برامج  ولا يتفق مع حالات فردية  يكون كل نائب فيها أمة من دون الناس. ولا يمكن لمراقب تجاهل اللحظة التاريخية التي أعطى فيها الإخوان المسلمون الثقة لحكومة مضر بدران، التي قادت برنامج التحول الديموقراطي، دون أن يشاركوا فيها. كما لا يمكن نسيان اللحظة التاريخية التي استقال فيها طاهر المصري لأن أكثرية النواب وقعت على وثيقة حجب الثقة، وهي الحكومة التي وإن اختلفت عن سابقتها في السياسة الخارجية وفي تحالفاتها النيابية، إلا أنها واصلت برنامج التحول الديموقراطي  من خلال إقرار قانون الأحزاب.

لقد بدأ الإصلاح السياسي بالتعثر والتراجع مع إقرار قانون الصوت الواحد المجزوء في غيبة من مجلس النواب، وهو القانون الذي كان كفيلاً بمنع  حزب المؤتمر في جنوب إفريقيا من الحصول على أكثرية نيابية بعد الإطاحة بنظام الفصل العنصري. إذن، من هنا نبدأ، والباقي تفاصيل. قانون انتخابات عادل، وحكومة نزيهة تُجري الانتخابات،  وبعدها فإن أي حكومة أكثرية ستكون قادرة على مواصلة الإصلاح السياسي مسنودة بقاعدة شعبية. 

ربما كان من أدق ما كتب عن الحكومة الجديدة هو ما كتبه الزميل جميل النمري في “العرب اليوم”، “فتشكيل الحكومات عندنا لا ينتمي لحقبة الديمقراطية التي تعني بكلمتين حكومات منتخبة. فالشعب يختار نوابه، والنواب يختارون حكومتهم. ويقال ان هذا يقتضي وجود احزاب برلمانية، لكن العكس صحيح في الواقع. فلن تقوم احزاب برلمانية، ولا حاجة لقيامها، اذا لم تصبح الحكومات برلمانية. والاغلبية البرلمانية ستقوم غدا صباحا، لو انيط تشكيل الحكومات بمجلس النواب. وقد رأينا كيف ان انتخابات حرة لرئاسة المجلس افرزت ائتلافين نيابيين، وهو ما سوف يحدث بعمق وجدية اعلى في تشكيل الحكومات. وليس لنا ان نخشى على الكفاءة والتوازن وحسن الاختيار، فلن يتفق عشرة نواب، ناهيك عن اتفاق كتل، الا على شخصيات كفؤة، وكلما اتسع اطار الشراكة في القرار فلن يمر الا الأفضل”.

ويدعو النمري إلى توسيع الشراكة في اتخاذ القرار للفكاك من إسار الدوائر الضيقة: “ويقال ان تشكيل الحكومات واقالتها حق دستوري للملك وحده، ومن قال اننا نتحدث بغير ذلك، لكن ما سيحدث هو فقط استبدال شراكة دوائر ضيقة وغير معلومة ومتغيرة في تنسيب الوزراء للملك، بشراكة دائرة معلومة وواسعة وتمثيلية ومؤسسية على غرار مجلس النواب.

هذا ينسجم مع معايير الديمقراطية والعصرية، لكن دون ذلك وقبله – واجعلوا التجربة حكماً بيننا – مع مقتضيات نشوء حكومات اكثر اقناعا واوفر كفاءة وأقوى تمثيلا”.

قد اختلف مع جميل في كثير من أفكاره السياسية، لكنني أزعم أن ما طرحه هنا  يشكل إجماعا لدى المشتغلين في السياسة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وما لم يؤخذ كلامه بجدية سنظل نرواح ونمارس لعبة المصطلحات والشعارات التي لم تعد تمر على أحد، لا داخل البلاد ولا خارجها.

ما عندنا هو إصلاح اقتصادي نفذ بقسوة ضمن المعايير الدولية المعتمدة، ودفعت شرائح واسعة كلفته، من قوتها ودوائها وتعليمها، ولا يزال هذا البرنامج ينفذ بالحرفية ذاتها. والمطلوب أن ننفذ برنامج الإصلاح السياسي، ولو بلطف وبالتقسيط، حتى لا يتحول الموعود إلى مفقود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *