مقالات

الرأي العام العربي ناضج والواقع مأساوي فقراً وفساداً واستبداداً

‏بعد كل العواصف التي شهدها العالم العربي في العقد الماضي، لم تُقتلع شجرة الديمقراطية من قلوب الناس، فلا تزال الأكثرية، بنسبة 71%، تعتقد أن النظام الديمقراطي هو الأكثر ملاءمة لبلدانهم. ولم تزد نسبة تأييد الحكم العسكري على 39‎%، وهي قريبة من نسبة من يؤيدون نظاما إسلاميا بلا انتخابات 35%‎، وتقبل نسبة 53% وصول حزب سياسي لا يتفقون معه إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع. ويؤكّد هذا الاستقرار، كما بينته نتائج استطلاع المؤشّر العربي 2022، أن الديمقراطية تحوّلت إلى قيمة راسخة، وليست مجرّد موجة عابرة. 
‏هذا ما يريده العرب وما يتطلعون إليه. في المقابل، نظرتهم واقعية إلى بلدانهم التي لا تزال تراوح مكانها في منتصف الطريق، لا هي قادرة على التخلّص من طموح الشعوب وما تحقق والقطيعة مع العالم، ولا هي قادرة على قطع المسافة اللازمة للوصول إلى نظام ديمقراطي، منذ عشر سنوات لا يزال العرب يراوحون في منتصف الطريق. وكشف الاستطلاع فراغ ضجيج منصّات التواصل الاجتماعي. وعلى الرغم من كل ما يُنشر من أساطير عن المؤامرة التي جاءت في الربيع العربي، فضلا عن المسلسلات والكتب، لم تزد نسبة من يؤمنون بها على 1%. ولو أجري هذا الاستطلاع في أعرق الديمقراطيات الغربية لما حصل على نتائج أفضل، فالمشكلة في الواقع أكثر مما هي في وعي الناس.
ومع أنه لا يوجد سؤال مباشر عن الثورات المضادّة، وهي تختلف جوهريا عن الربيع العربي، إلا أن تقييمه لا يزال إيجابيا والأكثرية تراه بين إيجابي وإيجابي جدا، مع انقسام بين الأمل والإحباط، والذي لا يعني رفض الربيع العربي. فقط من يرون أن الأنظمة السابقة عادت يشكلون ‫نصف العينة ومن يرون أن الربيع يمر بمرحلة تعثر وسيحقق أهدافه يشكّلون النسبة نفسها. وفي مصر التي شهدت بداية الثورات المضادّة من خلال الانقلاب العسكري ترتفع نسبة المتفائلين لتحقيق أهداف الربيع العربي من 25% إلى 50%، في حين تراجعت نسبة من يعتقدون بعودة الأنظمة السابقة إلى 28%!

%84 يرون أن سياسات إسرائيل تهدّد الأمن العربي واستقرار المنطقة

‏ولا تزال أكثرية ترى أن أسباب الربيع العربي هي الثورة على الفساد. وقد زادت هذه النسبة من 6% عام 2016 إلى 25% عام 2022 باعتبارها السبب الأول، وارتفعت نسبة من يرون أنها ضد الدكتاتورية من 9% عام 2016 إلى 14% عام 2022، في ظل أن الأكثرية ترى أن عوامل الربيع العربي، ومنها الفقر والفساد المستشري، لا تزال قائمة. 
العالم العربي ديمقراطي، ووحدوي أيضا، فالأكثرية بنسبة 80% ترى أننا أمة واحدة، و84% يرون أن سياسات إسرائيل تهدّد الأمن العربي واستقرار المنطقة. ويرى 59% أن إسرائيل والولايات المتحدة هما أكثر تهديدا، واحتلت إيران المرتبة الثالثة بنسبة 7%. وكما أظهر مونديال قطر أن العرب يجتمعون على قضية فلسطين، فقد أظهر “المؤشّر العربي” بثبات يتكرر منذ عشر سنوات إن الأكثرية الساحقة ترى في قضية فلسطين قضية العرب جميعا، وليست قضية الفلسطينيين وحدهم. ويراها 76% قضية العرب الأولى. وعلى الرغم من الاتفاقات الإبراهيمية وما حصل في العامين الماضيين، إلا أن 84% من العرب يرفضون أن تعترف بلدانهم بإسرائيل، وحتى الأقلية التي تقبل باعتراف إسرائيل، وهي 8% تشترط أن تعطي إسرائيل الفلسطينيين حقوقهم. 
مهم أن العرب، على الرغم من الأزمات الطاحنة التي مرّت بين الدول العربية، ومنها أخيرا الأزمة الخليجية أو الأزمة بين المغرب والجزائر أو لبنان وسورية وقضية اللجوء السوري، فإنها لم تزعزع قناعة الأكثرية من المواطنين العرب بأنهم أمة واحدة. ‏وبشأن السياسة الخارجية الأميركية المؤيدة للصهيونية، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تقدّم المساعدات لغير بلد عربي، مثل مصر والأردن، إلا النظرة المعادية لسياساتها مرتبطة في موقفها من الصراع العربي الصهيوني، وهو ما يثبت أننا أمة غير قابلة للرشوة في العلاقات المبنية على احترام وتبادل مصالح لا تعني قبول المشروع الصهيوني. وحال إيران ليس أفضل من أميركا في سياساتها التدخلية العدوانية في العراق واليمن ولبنان، فلم يشتر المواطن العربي موقفها المعادي للصهيونية في موازاة عدم احترامها سيادة البلدان.

الثقة في الأحزاب التي تعدّ الأداة الأساسية للعمل السياسي الديمقراطي منهارة إلى درجة كبيرة

‏ليست الصورة وردية، فرسوخ القيم الديمقراطية يقابله واقع غير ديمقراطي أصلا في مجتمعات فقيرة وحكومات وفاسدة. يرى 87% أن الفساد المالي والإداري منتشر في بلادهم، ويعيش 28% من العينة في حالة حاجة وعوز ودخل أسرهم لا يكفي نفقاتهم، وهو ما يضطرّهم إلى الاستدانة وطلب المساعدة والمعونة، وهذا ما يفسّر أن نحو ربع العينة تفكر بالهجرةً. 
‏ويكشف المؤشّر العربي في نسخته الثامنة، وهو الذي يُنجزه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، هشاشة المؤسّسات الديمقراطية، ففيما يتقدم الإيمان بالديمقراطية، إلا أن أهم أداة تعبر عن إرادة المواطن، وهي البرلمان، والمفترض أن يمنح الثقة للحكومة، ويراقب السلطات جميعا ويشرع لها، إلا أن ثقة المواطن العربي بها هي الأقل، إذ تتراجع إلى 21% يثقون بدرجة كبيرة و26 % إلى درجة ما، في المقابل تصل نسبة من يثقون بالجيش ثقة كبيرة 59% والثقة إلى حد ما 25%.
‏أما الأحزاب التي تعدّ الأداة الأساسية للعمل السياسي الديمقراطي فالثقة فيها منهارة إلى درجة كبيرة، ولم تتعدّ نسبة من يثقون ثقة كبيرة بها 6% في المؤشر 2022، والذي أعلن المركز العربي نتائجه الأسبوع الماضي، وهو لا يزيد عما تحققه في المؤشّر عام 2011، لكن هذا المؤشّر يعيدنا إلى السؤال الأساسي: ففي أثناء الربيع العربي عام 2011، جرت انتخابات في أكثر من بلد عربي، فازت فيها حركة النهضة في تونس مثلا والإخوان المسلمون في مصر، وهذا لا ينعكس في الاستطلاعات. كما أنك تحتاج إلى مقارنة نسب الثقة المتدّنية بالأحزاب عربيا مع ما هو بشأن المؤسسات الحزبية في دول ذات ديمقراطية راسخة، وهو ما يفسّر بروز زعامات شعبوية في بلد مثل تونس أو إيطاليا أو أميركا. 

العرب متديّنون، ولا يرون في الدين تعصّبا وهوية طائفية بقدر ما هو مرجعية أخلاقية، فهم يرفضون استخدامه لغايات سياسية

وإذا كانت المؤسّسات الديمقراطية هي الركن الأول للديمقراطية، فإن سيادة القانون هي الركن الثاني، لكنها لا تقلّ هشاشة في العالم العربي، إذ يعتقد 24% من العينة أن الدولة لا تطبّق القانون بالتساوي بين الناس على الإطلاق، و39% يرون أن الدولة تحابي، وتميز لمصلحة بعض الفئات. وتتصف هذه النظرة بالثبات بين 2011 و2022.
وبعيدا عن النظرة الاستشراقية الابتدائية في العالم العربي، من الواضح أن العرب متدينون، ولا يرون في الدين تعصّبا وهوية طائفية بقدر ما هو مرجعية أخلاقية، فهم يرفضون استخدامه لغايات سياسية. 85% يعتبرون أنفسهم بين متديّن جدا ومتديّن إلى حدّ ما، مقابل 12% يعتبر نفسه غير متديّن. وتربط الأكثرية (57%) التدين بالتركيز على السمات الأخلاقية، والأكثرية، بنسبة 65%، ضد التكفير، وترى أنه ليس من حق أي جهةٍ تكفير الذين ينتمون إلى ديانة أخرى، كما أن الأكثرية ترفض أن تؤيّد مقولة إنه يحق للحكومة استخدام الدين للحصول على تأييد الناس لها ولسياساتها. ولما كانت مسألة العلمانية بمعنى فصل الدين عن السياسة لا تزال إشكالية في العالم العربي، فإن نسبة من يؤيدون فصل الدين عن السياسة بلغت 47% مقابل 48% تعارض هذه المقولة، وهذا مستقرّ منذ عقد.

هل تريد التعليق؟