مقالات

قطار الحرمين الذي قدّمه خوان كارلوس بلا رشوة

لا يستحقّ ملك إسبانيا السابق، خوان كارلوس، هذه النهاية البائسة، يهرب من بلده تلاحقه تهم الفساد، رشى قطار الحرمين التي تلقاها من ملك السعودية الراحل عبدالله بن عبد العزيز. لديه ما يعمله للملوك والحكام العرب، لا أن يتعلم منهم الرشوة، وفي ما خص أقدس الأماكن لدى العرب والمسلمين. وبما أنه تعلم من أصدقائه العرب فلا بد، في المقابل، أن يعلّمهم.

هرب والده أمام الجمهوريين، وتولى البلاد الجنرال فرانكو الذي نجح في هزيمتهم، بعد حربٍ أهليةٍ طاحنةٍ قتلت أكثر من مليون إسباني. تحالف مع الفاشية والنازية ضد شعبه، وخلّد بيكاسو ملحمة جورنيكا التي تزيّن جدران الأمم المتحدة التي دمرها وأهلك حرثها ونسلها تحالف الدكتاتور مع الغزاة. خلّدها التاريخ صمودا وبطولة وخلّده طاغية مجرما، أزيلت تماثيله، حتى من قريته التي ولد فيها. 

نشأ خوان كارلوس، في تركيبة عجيبة، ولي عهد لدولةٍ يرأسها جنرال، والده منفي لا يستحق أن يكون ملكا. في عام 1975، توفي الجنرال وصار خوان كارلوس ملكا لإسبانيا، كل إسبانيا التي ظلت ممالك وأقاليم متصارعة. كان بإمكانه أن يقطف ثمار انتصارات الجنرال الدكتاتور وتضحياته، ويواصل سيرته طغيانا ودموية، ويملك البلاد ومن عليها، من دون أن يحتاج رشوة من ملك السعودية. 

في ذلك العام، كانت إسبانيا بلدا متخلّفا عالمثالثيا، اقتصادا وثروات وسياسة وإعلاما، وكان ديغول يستثنيها من أوروبا “بعد الألب لا توجد أوروبا”. كان في وسعه أن ينضم لجامعة الدول العربية التي يشاركها قيم القمع والاستبداد، لكنه اختار أن يكون زعيما تاريخيا، وجعل بلده جزءا من أوروبا اقتصادا وسياسة. 

في لحظة فارقة، انقلب الجيش على الديمقراطية. احتل مجلس النواب. كان في مقدور خوان كارلوس التخلص من معارضيه، أو من قادة الجيش، إخوة فرانكو الذين يدين لهم بالحفاظ على عرشه. لم تكن الرؤية سهلة. اهتدى إلى طريق المستقبل، اتصل بقادة الجيش، وطلب منهم الاستسلام، حافظ على مجلس النواب وسجن الضباط. 

مع أنها من أنجح مسارات التحول الديمقراطي، إلا أن الطريق لم تكن سهلة. وضع المتطرفون من الطرفين العصي في دواليب التحوّل. كان المحافظون يرون خوان كارلوس مندفعا، وسيسلم البلاد للشيوعيين. ولم ير اليساريون المتطرفون التحوّل كافيا. وفي النتيجة، وضع إسبانيا على سكّة المستقبل. 

تحوّل الإرهابيون الذين حملوا السلاح ضد الدولة، رغبة في التحرّر أو الانفصال، إلى قوى ديمقراطية. خمدت أصوات الرصاص لصالح أصوات الناخبين. وصناديق الاقتراع حلت مكان صناديق الذخيرة. كانت إسبانيا أفغانستان القوى اليسارية المقاتلة التي تسعى إلى إطاحة الملكية وبناء الدولة التقدمية. واجه العائدون من إسبانيا التهم ذاتها التي واجهها العائدون من أفغانستان. كان من بينهم الكاتب اليساري همنغواي الذي خلّد تلك التجربة في رواية ” لمن تُقرع الأجراس”.

في العالم العربي، برع الحكام في تحويل القوى الديمقراطية إلى إرهابيين. في السعودية، تجد خيرة شبان البلاد وشاباتها وشيوخها في الزنازين والمعتقلات، يسامون سوء العذاب بتهم الإرهاب، مع أنهم ضحاياه. 

هذه دروس مجانية للتعلم عن بعد. خوان كارلوس في أسوأ أحواله، غادر بلاده وهي دولة متقدمة متطوّرة من الدول العشرين. غادرها ملكا سابقا، ومملكة تنتمي للمستقبل. لم يغادرها كما غادر شاه إيران، وكما غادر القياصرة، وغيرهم من عوائل مالكةٍ دمروا عائلاتهم المالكة وممالكهم، غادر المُلك وبقيت المملكة. 

بإمكان بلاد الحرمين أن تستورد مجانا، بلا رشوة، قطار الحرمين الذي يوصل إلى المستقبل. في وسع الملك سلمان أن يدعو خوان كارلوس، ويقول إننا دفعنا له ثمن قطار آخر، ولم نقدّم رشوة له، ويجلس ويتعلم منه طريق المستقبل.

هل تريد التعليق؟