مقالات

يكسب الإسلاميون عندما يخسرون

يتعلم هتلر من عرب استئصاليين فلسفة “الحل النهائي”، فبعد الخسارة المدوّية لحزب العدالة والتنمية، المغربي، في الانتخابات أخيرا، تواصلت الحملة عليهم، فالمطلوب إبادتهم وإنهاء وجودهم في الواقع والمستقبل، وليس خسارتهم السياسية وتقدّم آخرين عليهم. مع أنهم قدّموا كل أوراق الاعتماد، بما فيها تمرير صفقة التطبيع المناقضة لمبادئهم. ومن قبل رضوا بالقسمة السياسية مع المخزن (القصر) الذي ظلّ يتحكّم في المناصب السيادية، وزارات وأجهزة.

ثمّة تفكير استئصالي مدمّر ليس للإسلاميين، بل للديمقراطية، تجده في مواقف دول وكتّاب وسياسيين، مع أن هذا الحل جرّبه حافظ الأسد بقانونٍ نص على “إعدام كل من انتسب لجماعة الإخوان المسلمين”، وثبت فشله، ولكنْ لا يزال له أنصار، ليس في حكّامٍ يخشون على كراسيهم، بل في كُتّاب تحكمهم ثارات الأيديولوجيا. ولا تستغرب أن تجد ديناصورا “يساريا”، بعد عقد من الربيع العربي، يخلط بين الضحايا والجلادين، لصالح الجلاد. ولا يملك ذرّة تعاطف تجاه “إخوان” مصر الذين يُعدمون بالتقسيط في سجونٍ كالقبور، وينشغل في التشنيع عليهم والتحريض، وكأنه يحضّر لتنفيذ أحكام الإعدام، أو يبرّر سياسة القتل البطيء بالإهمال الطبي.

وفق الحل النهائي الاستئصالي، تجد من يفقد الحس الإنساني في التعاطف مع بنات خيرت الشاطر ويوسف القرضاوي وغيرهن من المختطفات في السجون بغير ذنب، ولا يترحّم على أول رئيس منتخب في تاريخ مصر قُتل إهمالا، ولحقه ابنه. حل كهذا يتطلّب نزع الصفة الإنسانية عن الخصوم، واستباحتهم هم وذرّيتهم. وهذه العقلية تفسّر التواطؤ مع مشعوذ، مثل قيس سعيّد، ضد حركة سياسية راشدة مثل “النهضة”.

لنتخيّل لو أن راشد الغنوشي ألقى خطاب سعيّد في سيدي بوزيد، مساء الاثنين الماضي، ماذا سيكون الموقف؟ في مفردات الخطاب ولغة الجسد وتعامله مع صياح الحضور ما يُشعرك بأنك أمام شخص غير سوي. يصف من تظاهروا ضده بـ”المخمورين”، ويتعهد بإطلاق صواريخ قانونية تضربهم في العمق. خطاب يرفض مفهوم الدولة والدستور والقانون ومجلس النواب والأحزاب، ويتجاوز معمر القذافي في الفكر “الجماهيري”، ولم يبق إلا أن يتحفنا بكتاب أخضر. يكذب، يسجن نوابا وصحافيين، ويقول إنه لم يرفع قضية على أحد.

يعلم الاستئصاليون إن “النهضة” خسرت كثيرا من أصواتها، وبقيت موجودة، وقد تتغير الظروف وتتصدّر، وقد تخسر أكثر. إنها معركة وجود في نظرهم، إما نحن أو هم، تماما كما فعل المشير المعتوه خليفة حفتر، فقد خسر الإسلاميون الانتخابات وحقق المرتبة الأولى محمود جبريل، واليوم لا يشكل الإسلاميون في ليبيا القوة الأولى المهيمنة، وهذا لا يستثنيهم من الحل النهائي الاستئصالي.

لنتفق مع التحليل الخاطئ إن خسارة إسلاميي المغرب المسمار الأخير في نعش الإسلاميين. إذن، أتركوهم يرقدون بسلام. وأعلنوا وقف إطلاق النار في العالم العربي. قبلوا في النهاية بشروط اللعبة وحكموا بلا تسلّط، وغادروا الحكم بهدوء بلا عراقيل، وتحمّلت قيادة الحزب النتيجة، واستقالت الأمانة العامة. بلا قطرة دم جرى التغيير في المغرب. هذا هو الدرس الأساسي، على الرغم من المآخذ الكبيرة على التجربة المغربية. في المقابل، لك أن تتخيل الدماء التي تُراق في ليبيا وسورية واليمن وغيرها.

بعد عقد من تجارب الإسلاميين في الربيع العربي، لدينا كل الاحتمالات، وعلينا أن نختار: أولا، فوز بالانتخابات الرئاسية والنيابية في مصر، وانقلاب استئصالي عليهم أخرجهم من الحياة العامة، لا بل من الحياة الطبيعية، فمكانهم السجون أو القبور أو المنافي. ثانيا، فوز متكرّر في الانتخابات، وتشكيل الحكومة أكثر من مرّة في المغرب، وخروجهم عبر الصندوق من الحكم، وبقاؤهم في الحياة العامة. ثالثا، فوز وتراجع وتوافق ومناورة وشراكة في تونس، وانقلاب ناعم يمهّد لاستئصالهم وإخراجهم من الحياة العامة. رابعا، فوز محدود وخسارة انتخابية في ليبيا، مع حضور في الحياة العامة ومشاركة في الحياة السياسية، وانقلاب فاشل تحوّل حربا أهلية مدمرة. خامسا، مشاركة رمزية في الأردن والرضا بالقليل، وجود محدود في الحياة العامة والسياسية.

ظل الاستثناء التونسي الأفضل قبل انقلاب قيس سعيّد، ومن الممكن استعادته بصعوبة لو نجح الحراك الداخلي مع الضغط الدولي في إعادة سعيّد إلى رشده. وعليه، يظل المغرب عربيا الأقل سوءا.

المعركة ليست وجودية، نحن وهم. هذه المعارك وصفة لتدمير الدول والمجتمعات. الجميع “نحن” من حقه أن يحكم، أو يشارك في الحكم، وأن يكسب أصواتا وأن يخسرها. هذه المعارك العبثية خسّرتنا المعركة الوجودية مع المشروع الصهيوني. ومن باب السخرية المرّة إن من وقعوا اتفاقات السلام، والتطبيع، وانتصروا في الحروب غادروا السلطة، وليس آخرهم نتنياهو. ومحمود عبّاس الذي لم يطلق طلقة وخسر سلام “أوسلو” ما زال متمسّكا بالسلطة، مع إن أحدث استطلاع رأي أظهر إن 80% من الفلسطينيين يريدون استقالته. و”حماس” غادرت السلطة بلا ضجيج، مع أنها كسبت الانتخابات.

دلالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *